يبدو أنَّ سمسار عقارات الولايات المتحدة "دونالد ترامب" جاهل بالتاريخ والمواثيق الدولية، ولا يمرّ يوم إلّا ويخرج على العالم ببعض من خرافاته، وآخرها: ما قاله بشأن قناة السويس، وقناة بنما، ومطالبته بمنح سفن بلادة المرور منهما "بلوشي" مجانًا يعني، ولقناة بنما أهل يدافعون عنها، وما يهمنا هنا "قناة السويس" المصرية الخالصة، والتي تم حفرها بدماء أجدادنا قبل أكثر من 170 عامًا.
والتاريخ واضح، ولا يمشي وراء الأهواء "الترامبية"، والادّعاء بالقول على منصته "تروث سوشيال" "يجب أن تمرّ السفن الأمريكية مجانًا، وبحريّة عبر قناتي بنما والسويس، فهاتان القناتان ما كان لهما أن توجدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية".
تعلّمنا في دراسة تاريخنا أنّ فكرة حفر قديمة بدأت من تاريخ الفراعنة، إلّا أنّ التنفيذ الفعلي جاء في 30 نوفمبر 1854، من خلال منح محمد سعيد باشا، الحاكم المصري في هذا الوقت، حقّ امتياز للمهندس والسياسي الفرنسي فرديناند ديليسبس؛ لإنشاء شركة تتولى تنفيذ حفر مشروع قناة السويس، واستمرّ الحفر أكثر من 10 سنوات، وتمّ الافتتاح رسميًّا في 17 نوفمبر 1869، وتولّت إدارتها في ذلك الحين "الشركة العالمية لقناة السويس" برئاسة مدراء فرنسيين.
المعلومات التاريخية تؤكد أنَّ الولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا، والنمسا رفضت الاشتراك في الاكتتاب لتأسيس "الشركة العالمية لقناة السويس"، والتي بلغ رأس مالها 200 مليون فرنك (حوالي 8 ملايين جنيه مصري)، مقسّمًا على 400 ألف سهم، قيمة كل منها 500 فرنك.
واضطرت مصر أمام ذلك إلى رفع حصّتها في رأس مال الشركة من 92136 سهماً إلى 177642 سهمًا قيمتها 89 مليون فرنك تقريبًا (3 ملايين و560 ألف جنيه) بسعر هذا التوقيت، أي ما يقرب من نصف رأس مال الشركة، وذلك باقتراض 28 مليون فرنك (مليون و120 ألف جنيه) بفائدة عالية ومكلّفة، وهذا يعني أنّ أمريكا ليس لها أي دور تاريخي في حفر وتأسيس قناة السويس.
فأي دور يدعيه هذا السمسار الأمريكي، فشركة قناة السويس أصبحت شركة مصريّة خالصة، بقرار الزعيم جمال عبد الناصر بتأميم القناة، ونقل جميع أصول الشركة إلى الدولة المصرية، في 6 يوليو 1956، وتعهّد الزعيم ناصر بتعويض المساهمين؛ وهو ما نفّذته مصر فعليًّا وانتهت منه في 1 يناير 196.
وعلى مدار السنوات التالية تمّ تطوير القناة بأموال مصريّة خالصة، وآخرها: التوسعة الأخيرة في 2014، والتي تمَّت بشراء المصريين سندات تجاوزت 64 مليار جنيه؛ لتمويل خطط التطوير التي رفعت أطوال القناة إلى 72 كيلومتراً.
بل التاريخ الأمريكي السيئ هو أهمّ الأسباب وراء ما تتعرض له القناة من هزّات وتراجع في العائدات، منذ عام 2024، بعدما حقّقت عائدات قياسية بلغت 9.4 مليار دولار في عام 2023. ويتمثل الدور الأمريكي في هذا الدعم للكيان الصهيوني في حرب الإبادة على غزة والأراضي الفلسطينية والعربية، وما تبعها من تداعيات وهو ما تسبب في نزاعات في البحر الأحمر، وقيام الحوثيين بهجمات على السفن الأمريكية، وتلك المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر.
ومن المهم ملاحظة أن الابتزاز الأمريكي على دول العالم، بما في ذلك الدول المالكة للممرات الملاحية العالمية، مثل قناة السويس، مستمر منذ تولي المبتز الأكبر "ترامب" الحكم، فخلال الفترة الأخيرة، أعلنت لجنة الشحن البحري الفيدرالية الأمريكية فتح تحقيق حول ما أسمته "نقاط الاختناق البحرية العالمية" بما فيها قناة السويس، مضيفة أن الهدف من التحقيق، تقييم "الظروف غير المواتية" للتجارة الأمريكية، التي تتسبب فيها دول أو شركات شحن في الممرات الملاحية، ولاشك أن هذا نوع من الابتزاز، هدفه تخفيض رسوم المرور للسفن الأمريكية.
والسؤال المهم: بأيّ حق يطالب هذا "المبتز" باستثناء بلاده من دفع رسوم لمرفق استراتيجي مصري؛ والذي يمثل أحد أهم موارد الدخل الوطني، وبمطلب لا يستند لأيّ أسس قانونية، ولا عقل يقبله؛ فرسوم قناة السويس محكومة بقرارات سيادية مصريّة، وتحت السيادة الوطنية، ووفق نظم ولوائح، والتدخل فيها مؤكد أنّهُ خط أحمر؛ فقناة السويس ليست عقارًا من عقارات ترامب التي يديرها.
ولا يمكن أن ينسى المصريون الرفض الأمريكي لقرار تأميم قناة السويس؛ بدعوى أنّه يهدد حريّة الملاحة الدوليّة؛ لكون القناة هي ممر دولي، وتتطلب إدارة دوليّة مُحايدة، وعدم تحكّم مصر فيها، والدعوة إلى تكوين مجموعة من دول العالم لإدارة القناة.
ووفقًا لما كتبه أستاذنا ومفكرنا الكبير الدكتور علي الدين هلال، فإنَّ معاهدة القسطنطينية لعام 1888، هي التي تنظم حرية الملاحة في قناة السويس، وتضمن حريّة المرور للسُفن التجارية والعسكرية في القناة؛ إلَّا تلك التابعة لدول في حالة حرب مع مصر؛ فالقناة - وبالإجماع الدولي - ممر للملاحة الدولية يقع ضمن إقليم الدولة المصرية، ويخضع لسيادتها والقوانين السارية فيها".
والشيء الوحيد الذي يراه د. علي الدين هلال، موقفاً جيداً للولايات المتحدة الأمريكية، هو السعي من خلال مجلس الأمن للوصول إلى حل دبلوماسي للعدوان الثلاثي عام 1956 على مصر، في أعقاب قرار الرئيس عبد الناصر تأميم القناة، وعدم اللجوء إلى القوة، ثم "توجيه الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" إنذارًا - بعد الإنذار الروسي - للدول المعتدية على مصر ضمن العدوان الثلاثي؛ لوقف العدوان والانسحاب من الأراضي المصريّة، إلّا أنّه جاء في سياق الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.
ويبقى الأهمّ والرسالة التي يجب أن يدركها سمسار العقارات بدرجة رئيس أمريكا، أنَّ قناة السويس مصريّة السيادة، ويحكمها القانون المصري في تحديد الرسوم، وأمن قومي سيادي، وعليه أن يدرس التاريخ، وتضحيات المصريين في حفر وتطوير قناتهم "قناة السويس".
------------------------------
بقلم: محمود الحضري